الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (112): {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}{التائبون} رُفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءةُ بالياء نصباً على المدح ويجوز أن يكون مجروراً على أنه صفةٌ للمؤمنين، وقد جوِّز الرفع على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي التائبون من أهل الجنةِ أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} ويجوز أن يكون خبرُه قولَه تعالى: {العابدون} وما بعده خبرٌ بعد خبرٍ أي التائبون من الكفر على الحقيقة هُمُ الجامعون لهذه النعوتِ الفاضلةِ أي المخلِصون في عبادة الله تعالى {الحامدون} لنَعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء {السائحون} الصائمون لقوله عليه الصلاة والسلام: «سياحةُ أمتي الصومُ» شبّه بها لأنه عائقٌ عن الشهوات أو لأنه رياضةٌ نفسانيةٌ يُتوسّل بها إلى العثور على خفايا المُلك والملَكوتِ وقيل: هم السائحون في الجهاد وطلبِ العلم {الركعون الساجدون} في الصلاة {الامرون بالمعروف} بالإيمان والطاعة {والناهون عَنِ المنكر} عن الشرك والمعاصي، والعطفُ فيه للِدلالة على أن المتعاطِفَيْن بمنزلة خَصلةٍ واحدة وأما قوله تعالى: {والحافظون لِحُدُودِ الله} أي فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشرائع عَملاً وحمْلاً للناس عليه فلئلاً يُتوهمَ اختصاصُه بأحد الوجهين {وَبَشّرِ المؤمنين} أي الموصوفين بالنعوت المذكورةِ، ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِهم للتنبيه على أن مِلاك الأمرِ هو الأيمانُ وأن المؤمن الكاملَ مَنْ كان كذلك، وحُذف المبشَّرُ به للإيذان بخروجه عن حد البيانِ، وفي تخصيص الخطابِ بالأولين إظهارُ زيادةِ اعتناءٍ بأمرهم من الترغيب والتسلية..تفسير الآيات (113- 114): {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}{مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ} بالله وحده، أي ما صح لهم في حكم الله عز وجل وحكمتِه وما استقام {أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} به سبحانه {وَلَوْ كَانُواْ} أي المشركين {أُوْلِى قربى} أي ذوي قرابةٍ لهم، وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على جملة أخرى قبلها محذوفةٍ حذفاً مطّرداً كما بُيّن في قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ونظائرِه. روي «أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمه أبي طالب لما حضرتْه الوفاةُ: يا عمّ قل كلمةً أحُاجُّ لك بها عند الله فأبي فقال عليه الصلاة والسلام: لا أزال أستغفرُ لك ما لم أُنُهَ عنه فنزلت». وقيل: لما افتتَح مكةَ خرج إلى الأبواء فزار قبرَ أمِّه ثم قام مستعبِراً فقال: «إني استأذنتُ ربي في زيارة قبرِ أمّي فأذِن لي، واستأذنتُه في الاستغفار لها فلم يأذَنْ لي، وأنزل علي الآيتين» {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} أي للنبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين {أَنَّهُمْ} أي المشركين {أصحاب الجحيم} بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحيُ بأنهم يموتون على ذلك {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ} بقوله: {واغفر لأَبِى} والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق ودفعِ ما يتراءى بحسب الظاهرِ من المخالفة، وقرئ {وما استغفر إبراهيمُ لأبيه}، وقرئ {وما يستغفر إبراهيمُ} على حكاية الحال الماضية وقوله تعالى: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ} استثناءٌ مفرَّعٌ من أعم العللِ أي لم يكن استغفارُه عليه السلام لأبيه آزرَ ناشئاً عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة {وَعَدَهَا} إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام {إياه} أي أباه وقد قرئ كذلك بقوله: {لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وقولِه: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} بناءً على رجاء إيمانِه لعدم تبيُّنِ حقيقةِ أمرِه وإلا لما وعدها إياه كأنه قيل: وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدة مبْنيةٍ على عدم تبيُّنِ أمرِه كما ينبىء عنه قولُه تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي لإبراهيمَ بأن أوحِيَ إليه أنه مُصِرٌّ على الكفر غيرُ مؤمنٍ أبداً، وقيل: بأن مات على الكفر والأولُ هو الأنسبُ بقوله تعالى: {أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} فإن وصفَه بالعداوة مما يأباه حالةُ الموت {تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي تنزّه عن الاستغفار له وتجانبَ كلَّ التجانب، وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائرِه {إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ} لكثيرُ التأوّهِ وهو كنايةٌ عن كمال الرأفةِ ورقةِ القلب {حَلِيمٌ} صبورٌ على الأذية والمحنة، وهو استئنافٌ لبيان ما كان يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى ما صدر عنه من الاستغفار، وفيه إيذانٌ بأن إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كان أواهاً حليماً فلذلك صدَر عنه ما صدر من الاستغفار قبل التبينِ فليس لغيره أن يأتسيَ به في ذلك، وتأكيدٌ لوجوب الاجتناب عنه بعد التبين بأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبينِ وهو في كمال رقةِ القلبِ والحلم، فلابد أن يكون غيرُه أكثرَ منه اجتناباً وتبرُّؤاً، وأما أن الاستغفارَ قبل التبينِ لو كان غيرَ محظورٍ لما استُثنيَ من الائتساء به في قوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فقد حُقق في سورة مريم بإذن الله تعالى..تفسير الآيات (115- 117): {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)}{وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} أي ليس من عادته أن يصفَهم بالضلال عن طريق الحق ويُجريَ عليهم أحكامَه {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} للإسلام {حتى يُبَيّنَ لَهُم} بالوحي صريحاً أو دِلالةً {مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يجب اتقاؤُه من محظورات الدينِ فلا ينزجروا عما نُهوا عنه، وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدَر عنهم ضلالاً ولا يؤاخَذون به فكأنه تسليةٌ للذين استغفروا للمشركين قبل ذلك، وفيه دليلٌ على أن الغافَل غيرُ مكلفٍ بما لا يستبدُّ بمعرفته العقلُ {إِنَّ الله بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} تعليلٌ لما سبق أي أنه تعالى عليمٌ بجميع الأشياءِ التي من جملتها حاجتُهم إلى بيان قُبحِ ما لا يستقلُّ العقلُ في معرفته فيبيِّنُ لهم ذلك كما فعل هاهنا {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والارض} من غير شريك له فيه {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والارض يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} لمّا منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وضمّن ذلك التبرُّؤَ منهم رأساً بيَّن لهم أن الله تعالى مالكُ كلِّ موجودٍ ومتولي أمورِه والغالبُ عليه، ولا يتأتى لهم نصرٌ ولا ولايةٌ إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه متبرِّئين عما سواه غيرَ قاصدين إلا إياه {لَقَدْ تَابَ الله على النبى} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو العفوُ عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه {والمهاجرين والانصار} قيل: هو في حق زلاتٍ سبقت منهم يوم أحُدٍ ويوم حُنينٍ، وقيل: المرادُ بيانُ فضلِ التوبةِ وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاجٌ إليها حتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِما صدرَ عنه في بعض الأحوالِ من ترك الأَوْلى {الذين اتبعوه} ولم يتخلفوا عنه ولم يُخِلّوا بأمر من أوامره {فِى سَاعَةِ العسرة} أي في وقتها، والتعبيرُ عنه بالساعة لزيادة تعيينِه وهي حالُهم في غزوة تبوكَ كانوا في عُسرةٍ من الظَّهر، يعتقِبُ عشرةٌ على بعير واحد، ومن الزاد تزوّدوا التمرَ المدوّد والشعيرَ المسوّس والإهالة الزَّنِخة، وبلغت بهم الشدةُ إلى أن اقتسم التمرةَ اثنان وربما مصّها الجماعةُ ليشربوا عليها الماء المتغيِّرَ، وفي عسرة من الماء، حتى نحَروا الإبلَ واعتصروا فروثَها وفي شدة زمانٍ من حِمارة القَيظ ومن الجدب والقَحط والضيقة الشديدةِ، ووصفُ المهاجرين والأنصارِ بما ذكر من اتباعهم له عليه الصلاة والسلام في مثل هاتيك المراتبِ من الشدة للمبالغة في بيان الحاجةِ إلى التوبة فإنه ذلك حيث لم يُغنهم عنها فلأَنْ لا يستغنيَ عنها غيرُهم أولى وأحرى {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} بيانٌ لتناهي الشدة وبلوغِها إلى ما لا غايةَ وراءَها وهو إشرافُ بعضهم على أن يَميلوا إلى التخلف عن النبي عليه الصلاة والسلام وفي كاد ضميرُ الشأنِ أو ضميرُ القوم الراجعُ إليه الضميرُ في منهم، وقرئ بتأنيث الفعل وقرئ {من بعد ما زاغت قلوبُ فريقٍ منهم} يعني المتخلفين من المؤمنين كأبي لُبابةَ وأضرابِه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكريرٌ للتأكيد وتنبيهٌ على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العُسرة والمرادُ أنه تاب عليهم لكيدودتهم {إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} استئنافٌ تعليليٌ فإن صفةَ الرأفةِ والرحمةِ من دواعي التوبةِ والعفوِ ويجوز كونُ الأولِ عبارةً عن إزالة الضررِ والثاني عن إيصالِ المنفعةِ وأن يكون أحدُهما للسوابق والآخَرُ لِلّواحق..تفسير الآية رقم (118): {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}{وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} أي وتاب الله على الثلاثة الذين أُخِّر أمرُهم عن أمر أبي لُبابةَ وأصحابِه حيث لم يقبَلْ معذرتَهم مثلَ أولئك ولا رُدَّتْ ولم يُقطَعْ في شأنهم بشيء إلى أن نزل فيهم الوحيُ وهم كعبُ بنُ مالكٍ وهلالُ بنُ أميةَ ومَرارةُ بنُ الربيع، وقرئ {خَلَّفوا} أي خلَّفوا الغازين بالمدينة أو فسَدوا، من الخالفة وخُلوف الفم، وقرئ {على المخلّفين} والأولُ هو الأنسبُ لأن قوله تعالى: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض} غايةٌ للتخليف ولا يناسبُه إلا المعنى الأولُ، أي خُلّفوا وأخّر أمرُهم إلى أن ضاقت عليهم الأرضُ {بِمَا رَحُبَتْ} أي برُحبها وسَعتِها لإعراض الناسِ عنهم وانقطاعِهم عن مفاوضتهم وهو مثلٌ لشدة الحَيْرة كأنه لا يستقِرُّ به قرارٌ ولا تطمئن له دار {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي إذا رجَعوا إلى أنفسهم لا يطمئنّون بشيء لعدم الأنسِ والسرورِ واستيلاءِ الوحشة والحَيْرة {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} أي علِموا أنه لا ملجأَ من سُخطه تعالى إلا إلى استغفاره {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقّهم للتوبة {لِيَتُوبُواْ} أو أنزل قَبولَ توبتِهم ليصيروا من جملة التوّابين أو رجَع عليهم بالقَبول والرَّحمة مرةً بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم {إِنَّ الله هُوَ التواب} المبالغُ في قَبول التوبةِ كمّاً وكيفاً وإن كثُرت الجناياتُ وعظمُت {الرحيم} المتفضل عليهم بفنون الآلاءِ مع استحقاقهم لأفانينِ العقاب. رُوي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مَنُ بدا له وكره مكانه فلحِق به عليه الصلاة والسلام. عن الحسن رضي الله عنه أنه قال: بلغني أنه كان لأحدهم حائطٌ كان خيراً من ألف درهم فقال: يا حائطاه ما خلّفني إلا ظلُّك وانتظارُ ثمارِك اذهبْ فأنت في سبيل الله ولم يكن لآخرَ إلا أهلُه فقال: يا أهلاه ما بطّأني ولا خلّفني إلا الفتنُ بك فلا جرَم والله لأكابدنّ الشدائدَ حتى ألحقَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فتأبط زادَه ولحِق به عليه الصلاة والسلام، قال الحسن رضي الله عنه: كذلك والله المؤمنُ يتوب من ذنوبه ولا يُصِرُّ عليها وعن أبي ذر الغفاري «أن بعيرَه أبطأ به فحمَل متاعَه على ظهره واتّبع أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ماشياً فقال عليه الصلاة والسلام لما رأى سوادَه: كنْ أبا ذر فقال الناسُ: هو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: رحِم الله أبا ذر يمشي وحدَه ويموت وحده ويُبعث وحده» وعن أبي خيثمةَ «أنه بلغ بستانُه وكانت له امرأةٌ حسناءُ فرَشت له في الظل وبسَطت له الحصيرَ وقرّبت إليه الرطَبَ والماءَ الباردَ فنظر فقال: ظلٌ ظليلٌ ورُطبٌ يانعٌ وماء باردٌ وامرأةٌ حسناء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ والريح، ما هذا بخير، فقام ورحل ناقتَه وأخذ سيفَه ورُمحَه، ومرَّ كالريح، فمد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طْرفَه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السرابُ، فقال: كن أبا خيثمةَ فكانَهُ ففرِح به رسول الله واستغفرَ له» ومنهم من بقيَ لم يلحَقْ به عليه الصلاة والسلام منهم الثلاثة.قال كعب رضي الله عنه: «لما قفَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سلّمتُ عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني، وقال: ياليت شعري ما خلّف كعباً فقيل له: ما خلفه إلا حسنُ بُردَيه والنظرُ في عِطْفيه فقال عليه الصلاة والسلام: ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً ونهى عن كلامنا أيها الثلاثةُ فتنكر لنا الناسُ ولم يكلمنا أحدٌ من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلةً أُمرنا أن نعتزل نساءَنا ولا نقرَبَهن فلما تمت خمسون ليلةً إذا أنا بنداء من ذُروة سلعٍ: أبشرْ يا كعبُ بنَ مالكٍ فخرَرْتُ لله ساجداً وكنتُ كما وصفني ربي وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وضاقت عليهم أنفسُهم وتتابعت البِشارةُ فلبست ثوبي وانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالسٌ في المسجد وحوله المسلمون فقام إليّ طلحةُ بنُ عبيد اللَّه يُهرْوِل إلي حتى صافحني وقال: لتهنِكَ توبةُ الله عليك فلن أنساها لطلحةَ رضي الله عنه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارةَ القمر: أبشر يا كعبُ بخير يوم مر عليك منذ ولدتْك أمُّك ثم تلا علينا الآية». وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النَّصوح فقال: أن تَضيق على التائب الأرضُ بما رحبَتْ وتضيقَ عليه نفسُه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه..تفسير الآيات (119- 120): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}{يأيها الذين آمنوا} خطابٌ عام يندرج فيه التائبون اندراجاً أولياً وقيل: لمن تخلف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوكَ خاصة {اتقوا الله} في كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه المعاملةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المغازي دخولاً أولياً {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} في إيمانهم وعهودِهم أو في دين الله نيةً وقولاً وعملاً أو في كل شأنٍ من الشؤون فيدخل ما ذُكر، أو في توبتهم وإنابتهم فيكون المرادُ بهم حينئذ هؤلاء الثلاثةَ وأضرابَهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خطابٌ لمن آمن من أهل الكتابِ أي كونوا مع المهاجرين والأنصارِ وانتظِموا في سلكهم في الصدق وسائرِ المحاسن، وقرئ {من الصادقين}.{مَا كَانَ لاهْلِ المدينة} ما صح وما استقام لهم {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاعراب} كمزينةَ وجهينةَ وأشجعَ وغِفارٍ وأضرابهِم {أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} عند توجهِه عليه الصلاة والسلام إلى الغزو {وَلاَ يَرْغَبُواْ} على النصب وقد جُوِّز الجزمُ {بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي لا يصرِفوها عن نفسه الكريمةِ ولا يصونوها عما لم يصُن عنه نفسَه بل يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب، والكلامُ في معنى النهي وإن كان على صورة الخبر {ذلك} إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلامُ من وجوب المشايعة {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي عطشٌ يسير {وَلاَ نَصَبٌ} ولا تعب ما {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} أي مجاعةٌ وهي ما لا يستباح عنده المحرمات من مراتبها، فإن الظمأَ والنصبَ اليسيرين حين لم يخلُوَا من الثواب فلأَنْ لا يخلو ذلك منه أولى فلا حاجة إلى تأكيد النفي بتكرير كلمة لا، ويجوز أن يراد بها تلك المرتبةُ ويكونُ الترتيبُ بناءً على كثرة الوقوع وقِلّته فإن الظمأَ أكثرُ وقوعاً من المخمصة بالمعنى المذكور فتوسيطُ كلمةِ لا حينئذ ليس لتأكيد النفي بل للدلالة على استقلال كلِّ واحدٍ منها بالفضيلة والاعتداد به {فِى سَبِيلِ الله} وإعلاء كلمتِه {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار} أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافِر خيولِهم وأخفافِ رواحلِهم دَوْساً أو مكاناً يداس {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً} مصدرٌ كالقتل والأسرِ والنهب أو مفعول أي شيئاً يُنال من قِبَلهم {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ} أي بكل واحدٍ من الأمور المعدودة {عَمَلٌ صَالِحٌ} وحسنةٌ مقبولةٌ مستوجبةٌ بحكم الوعد الكريمِ للثواب الجميلِ ونيل الزُّلفى، والتنوينُ للتفخيم وكونُ المكتوبِ عينَ ما فعلوه من الأمور لا يمنع دخولَ الباء، فإن اختلافَ العنوان كافٍ في ذلك {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} على إحسانهم، تعليلٌ لما سلف من الكتب والمرادُ بالمحسنين إما المبحوثُ عنهم ووضعُ المظهرِ موضِعَ المضمرِ لمدحهم والشهادةِ عليهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالَهم من قبيل الإحسانِ وللإشعار بعلية المأخَذ للحكم، وإما جنسُ المحسنين وهم داخلون فيه دخولاً أولياً.
|